من المتحف العراقي إلى كنز بنغازي

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
11/12/2011 06:00 AM
GMT



في الايام الأولى من الثورة الليبية اختفى كنز بنغازي. 8 آلاف قطعة نقدية مسكوكة بالذهب والفضة والبرونز، تعود الى القرن السادس قبل الميلاد. عام 2003 وفي اليوم الذي احتُلت فيه بغداد، تمت سرقة المتحف العراقي ودار المخطوطات الاسلامية ومتحف الفن الحديث.
كانت بنغازي مدينة محررة بأيدي الثوار، ولم يكن حلف الناتو قد باشر عمليات القصف الجوي. بغداد كانت مدينة مستباحة، وكان الجنود الاميركيون يبتسمون للصوص الصغار أمام عدسات التصوير. سنصدّق ان الصورة كانت مقصودة لذاتها، ومن أجل معان أخرى في الوقت نفسه. لكن ماذا عن عالم كان يقع تحت الصورة؟
"الثوار لصوص". لم يقلها أحد، غير أنها فكرة لا تبشّر بخير. العراقيون كانوا لصوصاً أيضا. نهبوا البنوك والمتاحف وقاعات الفن والمكتبات والبيوت التراثية والمؤسسات الحكومية والمعامل وأعمدة الكهرباء واسيجة الطرق السريعة والمدارس والمستشفيات، ويمكننا أن نستمر في العد، من غير أن نتمكن من اللحاق بأجندة اللصوص المحليين. كانت الخريطة تتسع تحت أقدامهم. بلد يذهب إلى خوائه وخرابه. كنا في التاسع من نيسان فيما كانت الناس ذاهلة، وكان يوم القيامة قد أفلت شمسه. الحرائق التي التهمت أجزاء من بغداد كانت حدثاً آخر، يمكنه أن يغطي بدخانه على حقائق كثيرة. كانت هناك نسخة نفيسة ونادرة من التوراة قد اختفت، وكانت آثار كبيرة ومهمة قد حلّقت في الجو. لم يحمل اللصوص الصغار إلا الدمى السومرية والأختام الاسطوانية إلى بيوتهم. نقود بنغازي هي الأخرى لا تصلح للايداع في البنوك السويسرية. أجهزة الجمارك كانت معطلة في مدن أوروبية عدة في ذلك النهار الربيعي. رأس سرجون يتلفت. نسيت شبعاد عقدها الذهبي على الخزانة، قريباً من المرآة. كانت الوقائع الحزينة مسلية. هي ذي نذور الآباء الأثرياء تحلّ في بيوت الأبناء الفقراء. "لقد أفقرنا الطاغية"، ستارة ثقافية تنزل على مشهد هو مزيج من الرغبة في الانتقام من الذات والشعور العميق بالذل والكراهية. هي ذي النهاية إذاً. غير أن الغراب نطق بما لن تتمكن الصدور من الانفتاح عليه. لم نكن إلا في الخطوة الأولى. الصنم الذي تهاوى لم يكن إلا دمية وكانت أصنام الكعبة بعيدة.

الأئمة نائمون
يجلس اللصوص وهم يحصون غنائمهم. لا أحد يتحدث عن "الخُمس". الائمة نائمون. ذريعة الثوار كانت واضحة. يكاد سيف الاسلام ابن العقيد الذي استسلم لهذيانه منذ أربعين سنة أن يعفط. الملايين الاربعة من الليبيين لا تساوي ورقة من "الكتاب الأخضر"، فيما كانت ماريا كيري قد اعلنت عن ندمها. الخيانة لا تساوي مليون دولار. نحن جميعا على الميزان. مَن وضعنا هناك؟ لقد أخذنا على حين غرة كما تقول العرب. غير أن كل شيء لم يحدث بالمصادفة. كانت الثروات مبثوثة على الأرض، وكان الإنسان أعز تلك الثروات. حين قتل الثوار العقيد قدّموا المشهد الذي لطالما قد تخيله العقيد نفسه: الإنسان فريسة.        
"لن يكون الثوار لصوصاً، بل أسوأ". هناك فكرة لا ترحم: أن نكون بشراً. يتساوى في معبدها اللص والمتعفف، الزاهد والجشع، الفاسق والطاهر، الضال والمهتدي، المتمرد والمطيع، الذاهب إلى كفره بإرادته والمتعثر بأسباب إيمانه من غير أن يفقه شيئاً. لقد خُلقنا لكي نكون بشراً. لا تستوي معادلة الخلق إلا من خلال العودة إلى معنى أن يكون الإنسان إنساناً. وهو معنى صامت، نجده في اللحظات الفالتة من التاريخ غير المكتوب. حمل البدوي كتابه إلى بلاد الصين ليفرش أوراقه الخشنة على بساط من حرير. قال بولس الرسول كلمته الريفية في حضرة قرون من الجمال المديني في روما. غير أن قطّاع الطرق لم يؤسسوا لحضارة. حين اتخذت المئذنة شكل الملوية في سامراء كانت هناك عين مسيحية تدلّ المؤمنين إلى الطرق السالكة إلى الله. البشر ليسوا فراشات. اضرب واهرب. لا ينفع مبدأ من هذا النوع حتى في الكهوف. لقد كان أهل الكهف آية. لم تنفع أوراقهم المالية في السوق. هي أشبه بكنز بنغازي. ستشعر موظفة الـ"فور أكس" بالحيرة وهي تنظر إلى جداول العملات. هذه العملة لا ذكر لها هناك. غير أنها ثقيلة. أثقل من أن تحملها يد واحدة. أثقل من أن يحملها الضمير. أثقل من الروح وهي الأكثر خفة من ملاك. لن تعرض شبعاد عقدها الذهبي على الصاغة. سيشعر أحفاد يحيى بالألم. ألم المعرفة الناقصة وهم الذين جابوا بلاد الذهب من غير أن يغادروا محترفاتهم. للصوص خيال الرواد الاوائل. لقد استولى كريستوف كولومبوس على قبلة من ايزابيلا، فكانت الخيانة بعد تلك القبلة ممكنة. الذهب هنا يا مليكتي وإن يكن ذلك الذهب قلباً بشرياً. الهنود كانوا هناك حمراً، اما العراقيون فقد كانوا حفاة والليبيون كانوا بلا رؤوس. سيقال: "أرض السواد". ليبيا كانت مزرعة رومانية لم تصل إليها رسائل بولس الرسول.     

في حلبة الملاكمة
أفكر في الأثر. أما الإنسان فهناك من يفكر فيه. له خالقه. "ماذا لو امحى الأثر وبقي الإنسان؟"، سؤال وجيه. الديموقراطية يمكنها أن تُحلّ سؤالاً محل آخر. "ولكن الإنسان من غير أثره لن يكون إنسانا". لتكن ضلالتي كاملة وأشرح لي صدري. ما الذي يبقى من الأرض لو محونا الأهرام وأعمدة بعلبك والثيران المجنحة والاكروبوليس والزقورة السومرية وسور الصين وتماثيل بوذا وتاج محل وبترا ومعابد الازتيك والمايا والمسارح الرومانية وقصور بني الأحمر الأندلسية وأقنعة القبائل الأفريقية؟! سيكون لدينا سوق للأنتيك الزائف. فرجة يكون الإنسان من خلالها بضاعة للشياطين. تبقى الكلمة ويهرب الشعر. تهبط النغمة ضائعة أما الموسيقى فتبقى يابسة لا تغادر تابوت الميت العزيز. أيمكن أن يكون الطغاة قد خططوا أن يتركونا من غير أثر يذكر؟ شعوباً تنعى تاريخها من غير أن تستدل عليه بورقة مكتوبة بالحبر النضر، بدمية تقول لك: "وكل غريب للغريب نسيب"، بمنقار من غراب يشير إلى سفينة نوح، برائحة من شواء قديم تهب عبد الله الصغير فرصة للتأمل، بدقة ساعة تقول إن هارون تذكّر شارلمان في لحظة صداقة؟! نحن منذورون هذه المرة لضياع جديد، ضياع ليست له قافية، بعدما تعلمنا كتابة قصيدة النثر. لن نرى أطلالاً. سنجلس مثلما نصحنا أبو نؤاس. "قل لمن يبكي على رسم درس/ واقفاً ما ضر لو كان جلس". نجلس أمام التلفزيون، في محطات القطار، في متحف العائلة، في رماد الكلام، في يباس الشفتين، في اللعثمة والتهجية والتلويحة والعثرة وغنج العنزة. كان ملك الاردن الراحل الحسين بن طلال قد بدأ خطابه في مؤتمر قمة بغداد قائلاً: "اضاعوني وأيّ فتى أضاعوا". ويقال إن صدام حسين سحب مسدسه يومها وأجبر ملوك الخليج والأمراء على التبرع من اجل انقاذ فتى العروبة الضال. كانت صورة الفتى العربي الضائع رومنطيقية أكثر مما يجب، أما صورة البلطجي بلغة أهل مصر والـ"سرسري" بلغة أهل العراق فلم يتعرف إليها أحد. كان ذلك السرسري رومنطيقيا هو الآخر. ألم يصنع تاريخاً على حلبة ملاكمة؟           

بلاد تختفي
"اللصوص قادمون". لا يحق لبشار الأسد أن يقول ذلك. لا لأن نبوءته لن تكون صحيحة، بل لأنه سبقهم حين كان وارثا لما لا يحقّ له أن يرثه. بهذا المعنى كان هو الآخر لصا. سنكون مثاليين لو اعتقدنا أن ثوار ليبيا اختاروا أن يكونوا لصوصاً، وان الشعب العراقي قرر في لحظة غفلة أن يكون لصاً، من غير أن ننسى أن هناك ما يجب أن يُسرَق في سوريا. ألا يزال سمعان جالساً على عموده؟ ما لا نتذكره يتذكره سوانا. ولقد ابتلينا بحكام، ذاكرتهم ضعيفة. هم أيضا أشبه بالفراشات. اضرب واهرب. ما الذي تعنيه اثنان وأربعون عاماً من حكم القذافي في عمر الفراشة؟ ساعة أو أقل. مَن يُعلّم مَن؟ سنكون لصوصاً. كلنا أو بعض منا. لا فرق. لن نذهب إلى الذهب. الذهب تحت وسائدنا، في قلوب زوجاتنا، في عيون أطفالنا، تحت أشجار الزيتون، في المسافة ما بين "يا ليل" و"يا عين". سنسرق اللغة ونكون كاملين. لا كنز يمكنه أن يكون بديلاً. حينها سيحل الثغاء والخوار والنقيق والنهيق. سيكون البشر أكثر جمالاً من غير لغة وأشد نقاء. سيعودون إلى الخالق من غير أن يتركوا أثراً منهم على الأرض. نظيفين، أبرياء كما خلقتنا عدنا. لكن التاريخ يكون حينها كذبة. لن تترك قدما ارمسترونغ على القمر إلا أثر ذبابة على زجاج نافذة مكسورة، لن يستعيد بروست زمنه إلا باعتباره متطفلاً، والتفاحة التي انتظر نيوتن سقوطها التقطتها يدا يهوذا. سنكون على موعد مع الخيانة اينما توجهنا.    
"اللصوص قادمون". جملة بريئة، لكنها لن تكون كذلك حين يقولها رئيس مهدد في ملكه. ستخيفنا الكآبة. "كن رجلا" سيقال، أو "كن امرأة". ما الفرق؟ يُخيَّل إليَّ ان غيابنا هو الهدف. بعد كل الذي حدث، لن يكون في إمكاننا أن نحل طرفاً في المعادلة. ستختفي بلادنا من غير أن يكون لنا حق النشيد. ستبقى المدارس صامتة. المؤذن أعمى وجرس الكنيسة من بلاستيك.